حتى وقت قريب كنت أعتقد أن بعدم إمكانية تكوين صداقات بعد عمر الثلاثين. كنت أفكر في أنه لا وقت لدينا بعد الثلاثين، ولا طاقة أيضا. أنا أبذل كل يوم طاقة كبيرة لمجرد أن أفتح عيني وأقوم من النوم وأواصل كل هذه المهام المطلوبة مني. فمن أين لي بطاقة للتعرف على أشخاص آخرين والتسامح والحكي والاستقبال، وبناء التفاصيل المشتركة. كيف أشرح كل ما أنا عليه لشخص لم يشهد سنوات تكويني بكل ما فيها. يحتاج الأمر طاقة كبيرة. والإفيهات أيضا، سنحتاج عمرا كاملا لصناعة إيفيهات مشتركة.
لكني مؤخرا وبعد أن تجاوزت الثلاثين مبتعدة بثلاث سنوات كاملة أفكر في الأمر من زاوية مختلفة. ربما نستطيع عمل صداقات بعد الثلاثين أيضا. يختلف الأمر بعض الشيء فمساحة الاختيار أكبر. هناك نوعا ما من التفهم والتسامح..(كلنا علينا أقساط) حرفيا ومجازيا. ربما الثلاثين وربما الثورة تسمح بنوع من التفهم والتسامح لم يكن موجودا في عمر أصغر. هذا النوع من المؤازرة الصامتة. لست مضطرا لحكي تاريخك كله فرؤوس العناوين قد تكون كافية. بإمكان شخص تخطى الثلاثين وثورة فاشلة أن يقرأ ما خلفها.
كنت أفكر في ذلك عندما التقينا للمرة الأولى. كنت أحاول الظهور بمظهر جيد يليق بامرأة ثلاثينية ناضجة. قضيت وقتا أطول من المعتاد في التزين. ولم أفرد شعري لأبدو كامرأة ثلاثينية تتقبل نفسها وحقيقتها وكل هذه الأمور الطيبة التي أحاول أن أقولها لنفسي كل يوم. أخبرتني الساعة أن أمامي ربما 10 دقائق إضافية فقررت أن أضيف لمظهري طلاء أظافر لكن التعجل أدى لسكب الزجاجة بأكملها على ثوبي. اضطررت لتغيير ثوبي بآخر أقل جمالا ونظفت أصابعي وذهبت لموهدنا بطلاء أظافر (ملخبط) وفخذ ملطخ بطلاء الأظافر.
في الطريق كنت أفكر في أن علي أن أبدو ناضجة.. يعني إذا أردت أن تكتسب صديقا جديدا من المفضل أن تبدو ناضجا ومستقرا وما إلى ذلك. لا أعلم ما الذي حدث، هل كان للأمر علاقة بآلام المعدة أم بالفقاعة التي أحتمي بها طوال الوقت، لكني أخذت أحكي قصة حياتي كمريض نفسي في فيلم عربي أبيض وأسود متمدد على الشيزلونج، بما لا يليق بلقاء أول ولا بامرأة ثلاثينية ولا بعلاقة جزء كبير منها زمالة مهنية.
لا أتذكر الكثير مما حكيته. يشبه الأمر عطش ما لتكوين صداقة. رغبة في تثبيتها. أو ربما تصادف مع انضغاط جدران الفقاعة من حولي من كل جانب. أتذكر أني حكيت عن الفقاعة. عن تجنب الآخرين، عن الانسحاب الذي أمارسه. كنت فخورة وأنا أحكي، أحكي عن الأمر باعتباري وجدت أخيرا السلاح الشافي الكافي ضدهم. أحكي وأضحك. لكني منذ عدت بدا وكأن كل الأشياء قد تغيرت. أجد صعوبة في العودة إلى فقاعتي. كأن جسدي يلفظني. كأن فقاعتي تلفظني.ذلك العناد الطفولي الذي اعتقدت أنه مات ينكزني.
أنا لست فخورة بما أسميه سلامي مع العالم. حيلي في تجنب الأذى والجدل والصراعات الجانبية رغم أنها ناجحة في عزلي عن الأذى إلا أنها تعزلني عن نفسي أيضا. هذا الحاجز الزجاجي الذي كنت أشكو أنه ينمو بيني وبين العالم صار الآن بيني وبين نفسي. يحول بيني وبين الكتابة .بيني وبين أمي وابنتاي بيني وبين جسدي.
جسدي يلفظني بعنف.
لقد سيطرت عليه جيدا في السنوات الماضية، سيطرت مثلا على كفي كي لا تضرب هؤلاء المجانين على أفواههم كي يصمتوا. أمسك يدي اليمنى باليسرى وأرسم ابتسامة لطيفة جدا شديدة اللطف . أبتلع (أحا) وأقول (صحيح.. حاضر.. عندكم حق). أقف. أثبت قدماي في الأرض. أثبتها بمسامير عندما يكون كل ما أرغب به هو الجري.
أمنع أصابعي من الامتداد للأمواس والسكاكين الحاددة وعلب الأدوية. أمنع خيالي من التفكير في الحبال المتدلية من سقف الصالة.
لكن جسدي يلفظني الآن.. يعاقبني ولا يستجيب. حصلت على سلام زائف مع العالم لكن سلامي الداخلي ينهار. فقاعتي تتحول لوحش ينقبض علي ليأكلني,.